الأدب الإســــــــلامي

 

 

سبب رئيس

(3/3)

 

 

بقلم : أديب العربية معالي الشيخ الدكتور عبد العزيز عبد اللّه الخويطر     

الرياض ، المملكة العربية السعودية                

 

 

 

 

     والعلم فوائده لا تُحَدُّ، ونفعه لا يكاد يُحْصَرُ، وكل إنسان متعلم أو عالم يستفيد من العلم الفائدةَ التي يحتاجها، يستفيد منه اليوم مصدر رزق، وغدًا مصدر جاه ومكانة، وبعد غدٍ مصيدة ثواب وجزاء، وبعد ايام مخرجًا من مأزق، وبعد أسوبع مساعدة لمحتاج، وبعد شهر فتح باب دنيوي أو أخروي، أما اليوم الذي تكلم فيه إسحاق بن مرار الشبياني الكوفي فقد كان السبب الرئيس في ذهنه له، أو لمن استفتاه كالآتي:

     كان إسحاق بن مرار الشيباني الكوفي يقول:

     «تعلموا العلم، فإنه يوطئ للفقراء بسط الملوك».(1)

     هذا هو المستفاد الأول في ذهن إسحاق للعلم في هذه اللحظة، وهو سبب رئيس ومهم، فالعالم والحاكم هما العينان في وجه المجتمع، وأن يطأ المرء بساط الملك فشرف لابد أن يكون لصاحبه ما يؤهله له، ويَبُزُّ به غيره، والعلم هو المرتقى، هو القوة التي تساعد على الصعود إلى بلاط الملك، وهي الجواز من باب السلطان، وهي الأداة لتنحية الحارس عن الطريق. أفلا يكفي أن يكون هذا سببًا رئيسًا.

     وقد يأتي سبب رئيس متوهم بضرر بالغ، نتيجة جهل وتأخر، وانسياق وراء الأوهام، وجري وراء الخرافات، لكسل عقلي لدى المسؤولين، وسيطرة من الرعاع، لا تجد أمامها من يردها ممن يدركون الأمور على حقيقتها، فيوجهونها وجهتها، والقصة الآتية محزنة حقًّا، والسبب الرئيس فيها مفترى كاذب، في حين أن هناك أسبابًا لم تخطر على بال من حصروا السبب في غير ما هو، والقصة كما يلي:

     «اتفق في بعض السنين أن النيل لم يزد زيادة تامة، فقيل للحاكم حينئذ: إن جنادة (ابن محمد الهروي اللغوي النحوي) رجل مشؤوم، يقعد في المقياس، ويلقي النحو، ويُعزّم على النيل، فلذلك لم يزد.

     وكان من حدة الحاكم وتهـوره، وما عرف من سوء سيرته، لا يتثبت فيما يفعله، ولا يبحث عن صحة ما يبلغه، فأمر من ساعته بقتله، فقتله رحمه الله »(2).

     يعجب الإِنسان كيف تدخل مثل هذه الأفكار على المجتمعات، فتطفئ نور العقل، وترديه إلى هذه الظلمة، وتنزل به إلى قعر السقوط والذلة، وأين العلماء؟ وأين العقلاء والحكماء؟ لكن هذه الفترة من حياة العالم الإِسلامي كانت فترة عصيبة، غاب فيها العقل، وانحسر العلم، وضعفت الروح، وتضعضعت الشجاعة، وهزل الضمير، وتمركز الشيطان على كرسيه، يصرف الناس كيف يشاء، وكما يريد، و ويل لمجتمع يحكمه الشيطان! و ويل لمجتمع يغيب عنه العلم والعقل والتثبت، وفوق ذلك معرفة الله، والخوف منه، ورجاؤه.

     وكلمة واحدة رئيسة تقال صحيحة في موقعها تكشف فضل قائلها، وتُري عقله وعلمه، وتصبح مفتاحاً يفتح المغلق على صورة بديعة، وهذه الكلمة فهمها من يقدِّرها، ويقدِّر دقة استعمالها، ولو سمعها جاهل وهي في مكانها لم تعنِ له شيئًا، ولظنها من جملة مترادفات المعنى الذي دلّت عليه، وظن اشتراكها مع غيرها في هذا المعنى، الذي تبين أنها تنفرد به:

     «دخل الحسين بن أحمد بن خالويه يوماً على سيف الدولة، فلما مثل بين يديه قال له: «اُقعد»، ولم يقل: «اِجلس».

     قال ابن خالويه: فعلمت بذلك اعتلاقه (تعلقه) بأهداب الأدب، واطلاعه على أسرار كلام العرب.

     قلت: قال ابن خالويه: هذا لأنه يقال للقائم: (اُقعد)، وللنائم والساجد: (اِجلس»(3).

     وهناك سبب يُعطَى على أنه رئيس، وإن لم يكن رئيسًا؛ ولكن مفعوله يكون كذلك، رغم أنف الطرف المتلقي، وهذا يتأتى عندما يكون معطي السبب من أصحاب الميزات المدللين مثل الشعراء، الذين يقبل منهم عن شعرهم ما لا يقبل من الكتاب والأدباء في نثرهم، والخطباء على منابرهم، والوعاظ في مساجدهم، والمدرسين في حلقاتهم:

     «قال الخالع: أنشدني علي بن عبد الله بن وصيف الناشئ يومًا لنفسه من قصيدة:

تجاهُ الشظا جُنُبُ الحمى فالمشرفُ

حيالُ الرُّبٰى فالشاهقُ المتشرف

     فقلت له: بم ارتفعت هذه الأسماء وهي ظروف؟ فقال: بما يسوؤك»(4).

     إن جواب الناشئ شَكَّلَ سبَبًا رئيسًا بدليل أنه اكتفى به، ولم يردفه بغيره، ولم يتبعه أو يصحبه تعليل متوقع لجواب لمثل سؤال الخالع، ومن مكان عالٍ مشرف على من هم دونه ممن لا يحق لهم أن يسألوه جاء الجواب مغمضاً أصم، وترك لبيت المتنبئ المشهور أن يطل براسه فيقول:

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جراها ويختصموا

     وتنكب الناشئ الطريق، وترك الخالع مندهشاً، فاغرًا فاه، لم يبق له من الأمر إلا حرية قص هذه القصة التي أدخلها التاريخ عنجهية شاعر، أخطأ وأصر على خطئه.

     وكلمة رئيسة تطفئ نارًا ملتهبة، وتخمد حريقًا مشتعلاً، كاد يحدث خسائرَ اللهُ أعلم بمداها؛ ولكن هذه الكلمة كانت ذَنُوبا من ماء، جاء ببرد وسلام:

     «حضر رجل بين يدي بعض الملوك، فأغلظ له السلطان، فقال الرجل: «إنما أنت كالسماء إذا أرعدت، وأبرقت، فقد قرب خيرها».

     فسكن ما به، وأحسن إليه»(5).

     إن مَسرى هذه الجملة في فضاء نفس السلطان كان مدهشاً، ولقد أحسن القائل في قوله؛ لأنه لجأ إلى رسم صورة حولت فكر السلطان من الغضب إلى تتبع أجزاء الصورة وتأملها: فهذه هي السماء وهذا هو البرق، وهذا هو الرعد، ثم هذا هو المطر، ولعلهما ليل المطر المتخيلة، أطفأت نار الغضب الحقيقية، وجاءت نتيجة فائقة، فغضب السلطان لم يسكن فقط، بل تبعه إحسان للمغضوب عليه، فأصبح الخير خيرين، زوال الغضب والحسنى، فهذا يدخل في نطاق: «والعافين عن الناس»، «والله يحب المحسنين».

     إنها جملة رئيسة حقًا، وجاءت بخير عميم، وهي بلا شك خير من هَذْر كثير قد لا يأتي برفع أذى، وإنّما يجلب أذى فوق الأذى، وتكون كالحطب يرمى على نار مشتعلة، يزيدها اشتعالاً، ويزيد لهبها أوارًا.

     ويتمطى أحدهم، ويظن أنه وقع على كنز، وأنه سوف يلجم قبيله بسؤال حَضَّره، وظن أنه لن يستطيع عليه الإِجابة، واستعد لفرحة الانتصار، وظن أن المسؤول سوف يتوه في جدل ملتوٍ معقد، يبين فيه عجزه، ويكشف عن إخفاقه؛ إلا أن النية الحسنة، والاعتماد على الله في العون والتعضيد كان سلاح المسؤول، فأنار الله فكره ، وهدى طريقه، فرد ردًا قصيرًا وافيًا شافيًا، مدهشاً للسائل، مخيباً لأمله السيء، وواضعًا قاعدة يرد بها، وعلى نسقها، على كثير من هذا النوع من السؤال، الذي يراد به التحدي والعجيز، يأتي من أناس سيئي الأهداف، ملتوي المقاصد:

     «قيل لعبد الله بن عباس: أين تذهب الأرواح إذا فارقت الأجساد؟

     فقال: أين تذهب نار المصابيح عند فناء الأدهان؟»(6).

     إن هذا العبقري أجاب بسؤال لا بد أنه أفقد السائل توازنه، والكرة الآن عند السائل، وعليه أن يعطيها حقها، وإلا فليسلم طائعًا مختارًا. لقد كان الجواب رئيساً، كافيًا بل فوق ما كان متوقعًا.

     وقد يكون الجواب رئيساً، ولا جواب غيره رغم أنه خطأ؛ ولكن في أساس السؤال خطأ، وما بدئ بخطأ فاحرِ به أن ينتهى به. والشعبي رجل عرف بسخريته، خاصة عندما يكون مخاطبه ساذجاً مثل الخياط الذي سأله، والقصة كما يلي:

     «روي أن خياطاً مر بالشعبي، وهو مع امرأة في المسجد فقال:

     أيكما الشعبي؟

     فقال الشعبي مشيرًا إليها: هذه»(7).

     وهكذا تأتي الأجوبة الرئيسه كافية وافية، يقتنع بها مستنهضها، ويرضى بها سائلها؛ لأنها تشفيه فيما سأل عنه، أو تقنعه بأنه لا غيرها يمكن أن يحل محلها.

     والجواب الرئيس مريح؛ لأنه يوفر الوقت، خاصة في بعض المواقف مثل موقف الضابط العثماني في حرب البلقان أو القوم بالذات، فهذا وقت الاختصار في القول لإفساح المجال للفعل؛ وعلى العموم فالهذر غير مرغوب فيه، فهو كالثوب الذي يسحب على الأرض، فربما جمع من الأوساخ وغيرها ما يجعله ضارًا غير نافع.

*  *  *

الهوامش:

(1)        معجم الأدباء: 6/79.

(2)        معجم الأدباء: 7/210.

(3)        معجم الأدباء: 9/202.

(4)        معجم الأدباء: 13/286.

(5)        سراج الملوك: 118.

(6)        أدب الدنيا والدين: 15.

(7)        المراح في المزاح: 341.

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، شعبان  1432هـ = يوليو 2011م ، العدد : 8 ، السنة : 35